الحكومة المصرية تقر بصعوبة خفض الأسعار رغم السيولة الدولارية
استمرار الغلاء وجشع التجار واحتكار السلع الثالوث الذي يربك الحكومة.
بعثت الحكومة المصرية رسائل سلبية إلى المواطنين بشأن غلاء الأسعار، وبدت كأنها لا تمتلك رؤية واضحة للتعامل مع القفزات المتلاحقة في أسعار السلع، على الرغم من توافر سيولة دولارية في البنوك تتيح استيراد المواد الغذائية.
وعبّر رئيس الحكومة مصطفى مدبولي عن استنكاره لاستمرار الغلاء بعد تراجع سعر الدولار وتوافر العملة الصعبة، لافتا إلى أن عدم خفض الأسعار غير مبرر ويجب أن يتدخل كبار التجار لحل هذه المشكلة ووضع حلول عاجلة.
وأثارت تصريحات مدبولي جدلا واسعا لأنها أوحت بإخفاق الحكومة في خفض الأسعار رغم أنها الجهة المنوط بها التدخل لتحقيق التوازن في الأسواق وإيجاد حل لأهم ملف يرتبط بالشارع، ما أوحى بأن الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة مجرد مسكنات.
وأعلنت وزارات التموين والتجارة والصناعة، واتحادات الغرف التجارية، وجهاز حماية المستهلك، قبل أيام قليلة على حلول رمضان، وضع سعر عادل للسلع الأساسية، ووصل عددها إلى 15 سلعة، وتعهدت الحكومة بمطاردة أباطرة السوق والقضاء على الاحتكار.
ولم يعد يعني المواطن سوى نجاح الحكومة في السيطرة على السوق، ومواجهة الجشع والاحتكار، وضبط أسعار السلع الأساسية، وإذا تحقق هذا الهدف فستكون الحكومة بذلك قد ضمنت رضاء الأغلبية الكاسحة من المواطنين، ويمكنها مواجهة التحديات وهي مطمئنة على وقوف الأغلبية في صفها.
وعجزت الحكومة عن تحقيق الحد الأدنى من هذه المطالب إلى حد الآن، رغم أنها سهلة التطبيق وتحتاج إلى صرامة وإطلاق يد الأجهزة الرقابية لضرب مراكز القوى في السوق التي تهدد الأمن المجتمعي.
ونجحت أجهزة الدولة في فرض سعر رسمي للعملات الأجنبية في البنوك ومتاجر الصرافة، وأصبحت السوق الموازية (السوداء) مترنحة ولم يعد لها تأثير على أسعار السلع المستوردة، ما يعني أن معدلات الغلاء كان يجب أن تنخفض تدريجيا.
ويقول متابعون إن مسألة الخفض تحتاج بعض الوقت، لأن السلع التي تباع جرى شراؤها بأسعار كان فيها الدولار مرتفعا، ودورتها التجارية في الأسواق ستستغرق وقتا، ولا ذنب للحكومة في ذلك، وعليها فقط تحفيز أجهزتها الرقابية.
وأكد طلعت خليل، أمين عام حزب المحافظين والخبير في الشؤون الاقتصادية، أن الانفلات في الأسعار لن يتوقف طالما هناك ارتباك في عملية المواجهة، ومن الواضح للكثير من التجار والمواطنين أن الأجهزة الحكومية المنوط بها ضبط السوق تبدو عاجزة عن فرض سيطرتها.
وأضاف لـ”العرب” أن “الحكومة عوّلت على توافر سيولة دولارية لخفض الأسعار دون تدخل مباشر منها لتفعيل ذلك بإجراءات عملية على الأرض، وهذا خطأ آخر لا يقل خطورة عن سلسلة من الأخطاء التي ظهرت في سياسات الحكومة خلال الفترة الماضية، ومن دون محاسبة برلمانية ومساءلة صارمة لأي مسؤول ارتكب خطأ”.
وما يثير غضب البعض أن السلع الأساسية ترتفع أسعارها رغم أن مكوناتها محلية، ما يشي بعدم قدرة الحكومة على كبح جشع التجار، وزاد من شك المواطنين في أن هناك مصالح خفية بين بعض المسؤولين وكبار التجار الذين يسيطرون على السوق.
وتتعامل الحكومة ببطء مع الأزمات المرتبطة باحتياجات الشارع للحد من مخاطرها، وتظهر عاجزة أو بلا حلول ناجزة، وإذا تدخلت يأتي تحركها متأخرا، وقد تواجه صعوبة مضاعفة في سعيها لإيجاد وسائل لعلاج أزمة حادة مثل أزمة زيادة الأسعار.
وسوّقت الحكومة للإنجاز الاقتصادي المرتبط بتحرير سعر صرف الجنيه المصري، وما يترتب عليه من تراجع تدريجي في أسعار العملات الأجنبية، وتوافر السيولة الدولارية، لكنها تركت أباطرة السوق يتلاعبون به، وتحولت تحركات الحكومة الإيجابية إلى ما يشبه الخدع في نظر شريحة من المواطنين.
ولم يعد أمام الحكومة سوى قيام أجهزة الدولة بتشديد القبضة على التجار، وذلك إذا أرادت إعادة الاعتبار لصورتها الشعبية إعادة سريعة، وعليها أن تكبح فوضى الأسواق، قبل أن تظهر أمام الرأي العام بمظهر غير القادرة على فرض إرادتها على التجار.
ويعد أسلوب القبضة الحديدية أحد الخيارات التي تعيد ثقة المصريين في الحكومة، لكن العبرة أن تعي خطورة ارتفاع منسوب الغضب الشعبي وما يتطلبه من حكمة، فقد يتسع نطاقه وتصعب السيطرة عليه بالأدوات التقليدية.
وأكد طلعت خليل لـ”العرب” أن “وجود أكثر من سعر للسلعة الواحدة وتفاوته من مكان إلى آخر يعكسان حجم العجز في التصدي لانفلات السوق، ويطرحان تساؤلات حول دور الأجهزة الرقابية التابعة للوزارات المعنية في حماية المستهلك”.
ويتناقض البطء في ضبط السوق مع ما تستهدفه الحكومة من إعادة صناعة الأمل لدى المواطنين وإقناعهم بأن الخروج من الأزمة الاقتصادية مسألة وقت، وهو الخطاب الذي ارتبط بالنجاح في جلب عوائد دولارية ضخمة، في صورة استثمارات إماراتية ومساعدات ومنح أوروبية وقروض دولية.
ونشطت الأجهزة الأمنية والرقابية مؤخرا، وضبطت شبكات فساد ورشاوى واحتكار لسلع مهمة، لكنها لم تواصل حملتها الصارمة بالوتيرة نفسها، مع أن ضرباتها قادت إلى تراجع نسبي في الأسعار التي عادت إلى الارتفاع مجددا بسبب عدم الاستمرارية.
ويتهم معارضون الحكومة بأنها تتحمل الجزء الأكبر من مسؤولية انفلات الأسعار، لأن لديها من الأدوات ما يكفي لفرض سيطرتها على السوق والتجار، لكنها انشغلت الفترة الماضية بالصفقات ومحاولة إنقاذ الاقتصاد من عثراته، حتى تعقدت أزمة الغلاء، وعليها الآن إعادة فاعلية أجهزتها قبل استفحال أزمة زيادة الأسعار.
ويرى هؤلاء المعارضون أن مشكلة الحكومة تكمن في عدم استيعابها للأضرار الشعبية والسياسية التي تلحق بها بسبب الغلاء والجشع والاحتكار وعدم الصرامة في المواجهة، فكلما قفزت الأسعار تراجعت جدوى برامج الحماية الاجتماعية ولم تعد ذات قيمة مادية، ما يؤثر سلبا على علاقة السلطة بالفقراء كشريحة أوْلى بالرعاية.
وتظل قدرة الحكومة على مواجهة ما يحدث من زيادات في الأسعار مرتبطة بالكف عن تعليق شماعة الغلاء على أزمات خارجية فقط، فذلك الخطاب يتضمّن تبرئة للمسؤولين المقصّرين والتجار الجشعين ويساعدهم على نهب جيوب المصريين.