تقرير / الجزيره
نشرت مجلة زمان الإسرائيلية تقريرا مفصلا بناءا عن معلومات صادرة عن هيئة السكان والهجرة الإسرائيلية أن 470 ألف إسرائيلي هاجروا بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى، وليس معلوما ما إذا كانوا سيعودون إلى البلاد أم لا، علما بأن هذه الأرقام لم تشمل آلاف العمال الأجانب والدبلوماسيين الذين غادروا البلاد منذ اندلاع الحرب.
وأظهرت الأرقام المبكرة أيضا أن عدد المهاجرين اليهود إلى إسرائيل قد انخفض مع الشهر الأول بعد أكتوبر/تشرين الأول 2023 بنسبة 50% مقارنة ببداية العام، ثم انخفض العدد بنسبة 70% في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، إذ هاجر فقط ألفا شخص إلى إسرائيل بين بداية أكتوبر ونهاية نوفمبر .
وبحلول يونيو 2024 ذكرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أن نصف مليون إسرائيلي غادروا دولة الاحتلال ولم يعودوا في الأشهر الستة الأولى من الحرب، ولا يُعلم ما إذا ما كان ذلك قرارا مؤقتا أم أنه سيتحول إلى هجرة دائمة.
وفي يوليو أكدت الصحيفة نفسها نقلا عما أوردته القناة الـ12 الإسرائيلية الإخبارية اعتمادا على بيانات المكتب المركزي للإحصاء أن عدد أصحاب الجنسية الإسرائيلية الذين غادروا بشكل دائم بعد طوفان الأقصى ارتفع بشكل كبير في الشهر الأول من الحرب، ثم انخفض العدد نسبيا في الأشهر التالية.
وفي هذا السياق، تذكر الصحيفة أن الإسرائيليين كانوا يهاجرون بالفعل بوتيرة مرتفعة منذ منتصف عام 2023 وبحسب تلك الأرقام الجديدة فقد هاجر نحو 12 ألفا و300 إسرائيلي في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولم يعد هؤلاء حتى يونيو/حزيران 2024، ثم غادر البلاد 30 ألف إسرائيلي على نحو دائم في الشهرين التاليين ، وفي المقابل، رُصد انخفاض واضح في عدد الإسرائيليين العائدين من الخارج هذا العام مقارنة بالعام السابق.
ويعد تعداد الإسرائيليين الذين هاجروا من دولة الاحتلال خلال الشهر الأول لـ”طوفان الأقصى” مفزعا، إذ تؤكد بيانات هيئة الإحصاء الإسرائيلية أنهم كانوا أكثر بنسبة 285% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022.
وقد أكدت القناة الـ12 في تغطيتها أن الأدلة تشير إلى من فروا من دولة الاحتلال من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 حتى مارس/آذار 2024 ولا ينوون العودة مرة أخرى، وأنهم بدؤوا بالفعل الانتقال التام بحياتهم إلى خارج البلاد.
وفي السياق ذاته، أكد تقرير نُشر في يوليو/تموز الماضي عن معهد “سياسة الشعب اليهودي” أن
المؤسسون.
وهذه الهجرات إلى الخارج لن تؤثر فقط ديمغرافيا في دولة الاحتلال عبر الإخلال بنسبة اليهود فيها، علما بأن التأثير الديمغرافي هو أحد أكبر هواجس الاحتلال دائما، بل إنها ستدفع أيضا الليبراليين واليساريين والمتعلمين تعليما “راقيا” بشكل خاص نحو الفرار، مما سيجعل إسرائيل بمرور الوقت أكثر تطرفا وانغلاقا وعزلة عن العالم، خاصة أن دولة الاحتلال لا تسمح لمواطنيها بأن يصوتوا من الخارج.
وهو ما يعني أن من سيتحكم في مستقبل دولة الاحتلال في النهاية هم جوقة من تيارات أقصى اليمين الذين تداعب عقولهم أوهام التوسع والسيطرة عبر ممارسة المزيد من القمع والمزيد من إراقة الدماء.
فور أن تتاح لهم الفرصة بسبب الحرب.
وبحسب صحيفة “جيروزاليم بوست”، فإن هذا الإحصاء يعكس انخفاض ثقة المواطنين في قيادة جيش الاحتلال.
ومما يلفت الانتباه في هذا التقرير أنه أوضح أن أصحاب التوجه اليميني في إسرائيل أصبحت الأغلبية العظمى منهم لا تثق في قيادة جيشها ولا حكومتها، بل وأوضح أن نسبة معتبرة من اليهود في دولة الاحتلال ممن كانوا يميلون في السابق إلى العدوان العسكري أصبحوا منفتحين نسبيا على الحلول الدبلوماسية.
وتخبرنا هذه التقارير مجتمعة عن حقيقة واضحة هي أن هجرة المواطنين اليهود من دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول أصبحت ظاهرة واضحة لا يمكن تجاهلها .
وفيما يبدو فإن المسؤولين في دولة الاحتلال فطنوا إلى ذلك الأمر حتى أن وزير المالية المنتمي إلى اليمين المتطرف بتسلئيل سموتريتش أعلن في فبراير/شباط 2024 خطة لمنح مكافآت مالية للمهاجرين الجدد القادمين من الغرب إذا ما عاشوا ضمن ما سماها “الحدود الجنوبية أو الشمالية لإسرائيل”، أو في الضفة الغربية.
ومن الواضح أيضا أن الأشهر الماضية لم تشكل فقط تحديا سياسيا وأمنيا لدولة الاحتلال، وإنما فرضت أسئلة اجتماعية وديمغرافية صعبة، ليس فقط لأن الدولة التي طالما وُصفت بأنها لا تقهر تعرضت لهجوم مباغت مذل من جماعة لا تضاهيها بأي حال على المستوى العسكري، ولكن أيضا لأن قطاعات واسعة من المجتمعات في العالم أصبحت تنظر إليها بوصفها كيانا محتلا، وتعبر بوضوح عن كون استهدافها يعد مقاومة وليس إرهابا ويعبر عن تطلعات وطنية مشروعة بحكم العرف التاريخي والقانون الدولي كليهما.
ومن جانب آخر تشير صحيفة غلوبس الاقتصادية في إسرائيل- إلى أن الأرقام والإحصاءات الحالية بشأن الهجرة العكسية من دولة الاحتلال لا تعكس بعد التأثير الكامل للحرب الدائرة حاليا وأيا ما كانت النتيجة النهائية لهذه “المواجهة العسكرية” فمن المرجح أن هناك المزيد من التداعيات السلبية القادمة على الاقتصاد والسياسة والمجتمع في إسرائيل.
وبمجرد نهاية العمليات العسكرية سوف تدخل إسرائيل في أتون حرب سياسية ضارية تغذيها بيئة اجتماعية ملتهبة وتحيطها تحديات اقتصادية شاملة أقلها عجز كبير في ميزانية الدولة سيؤدي إلى ارتفاع حتمي في الضرائب وإجراءات تقشف وتقلص في الخدمات العامة، مما قد يدفع المزيد من سكان إسرائيل إلى اتخاذ قرار الرحيل.
وتشير الصحيفة إلى أن دولة الاحتلال غالبا ما تفضل غض الطرف عن ظاهرة الهجرة العكسية المتزايدة للخارج. وتؤكد أن تجاهل تلك الظاهرة يضرب بجذوره بعيدا، إذ يتعلم التلاميذ في المدارس مثلا عن الهجرات الكبيرة إلى إسرائيل، لكن لا أحد يخبرهم شيئا عن موجات الهجرة العكسية المتتابعة، وهو ما يجعل هذه الظاهرة تتفاقم في صمت، خصوصا في أجواء ملتهبة مثل أجواء 7 أكتوبر/تشرين الأول وما بعده، والتي لا يرغب أحد فيها بإثارة ذعر المجتمع الذي يعيش فيه بالفعل داخل دائرة مغلقة من الخوف.
وفي خضم هذا التجاهل الرسمي حاولت صحيفة فورورد الأميركية اليهودية تتبّع الظاهرة من خلال تحقيق لها تحدثت فيه مع المخططين للهجرة داخل دولة الاحتلال ، وقد عكس التحقيق شيئا من آثار عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول وما بعدها على قرارات هجرة الإسرائيليين، فقد عبرت سارة مان -وهي محررة تبلغ من العمر 55 عاما وتعيش في تل أبيب عن الأمر- بقولها “لقد انكسر العقد الاجتماعي، نحن نعيش هنا، ندفع الضرائب هنا، نرسل أطفالنا إلى الجيش، نتحمل المشاق والمتاعب”.
وأضافت “نتوقع الحماية من الدولة، نتوقع أن نبقى آمنين، لكن من الواضح أن الحكومة فشلت، والجيش فشل، وآلية الأمن فشلت، لماذا لم يكن هناك أمن على حدود غزة؟ لقد خانتنا حكومتنا”.
وقالت إسرائيلية أخرى هاجرت حديثا إلى نيويورك “نحن -الأنجلوسكسونيين- مبرمجون بشكل مختلف بعض الشيء عندما يتعلق الأمر بصفارات الإنذار والصواريخ، لم ينشأ أي منا على التعامل مع مثل هذه الأنواع من التهديدات، ومن الصعب علينا أن نشعر بالثقة التامة في أن الأمور سوف تسير على ما يرام”.
وكشف التحقيق عن حقيقة هامة وهى ان الحرب كانت بمثابة “القشة التي قصمت ظهر البعير” بالنسبة للكثير من المهاجرين والمخططين للهجرة في إسرائيل فإن الدوافع وراء هجرتهم لم تكن الحرب أو عمليات المقاومة فقط، بل كان منها شعورهم بأنهم يعيشون في مجتمع يتجه بوتيرة متصاعدة نحو التطرف الديني.
وعبّر بعض من التقاهم معدو التحقيق عن قلقهم البالغ بشأن تراجع حقوق المرأة في إسرائيل، وبشأن الافتقار إلى التسامح والرغبة في التعايش لدى الشارع الإسرائيلي، ليس فقط مع العرب وإنما حتى بين العلمانيين والمتدينين في دولة الاحتلال ذاتها.كما عبّر بعضهم عن شعوره بأن دولته تفقد شرعيتها على المستوى الدولي، وكان هناك خوف واضح من أن صعود التطرف الديني داخل الدولة يهدد أسلوب الحياة “الليبرالي” للعديد من المواطنين.
كذلك عبّر آخرون عن “اشمئزازهم” من تلك الرغبة العارمة في الشارع في مواصلة الحرب وقتل المدنيين في غزة بدلا من التسويات السياسية
ونأخذ على سبيل المثال حالة أليكس غولدمان، وهو مواطن في دولة الاحتلال ومدير تنفيذي في مجال التكنولوجيا وافقت بولندا مؤخرا على إعطائه جنسيتها لأن أبويه بولنديا الأصل و”ناجيان من الهولوكوست”.
يقول غولدمان إن العرب وحتى حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ليسوا هم الذين دفعوه إلى الهجرة، وإنما من يخيفونه حقا هم اليهود المتدينون المتطرفون من أقصى اليمين المتطرف الذين “استولوا على إسرائيل وجعلونا نسأل متى قد نحتاج إلى الفرار”.
وبحسب غولدمان، فإن زعماء أقصى اليمين المتطرف “استولوا على الدولة” وأصبحوا يحرضون على النشطاء اليساريين في مناخ خانق لحرية التعبير لدرجة جعلته هو نفسه يحذف منشورات “ناقدة” كتبها في السابق على فيسبوك.
وتشير إحدى المسؤولات في شركة “أوشن غروب” المتخصصة في مساعدة من يريدون الهجرة إلى خارج دولة الاحتلال إلى أن دوافع المهاجرين تتعلق عادة بشأن مخاوف السلامة الشخصية والإحباط السياسي وارتفاع تكلفة المعيشة.
وفي عام 2022 نشرت الصحيفة اليومية “إسرائيل اليوم” استطلاعا للرأي استخلصت من خلاله أن 69% من مواطني دولة الاحتلال يريدون الانتقال إلى خارج البلاد لدواعٍ اقتصادية في مقابل 46% في العام الذي سبقه. و يمكننا أن نلاحظ قبل “طوفان الأقصى” فقدان الكثير من الليبراليين واليساريين في إسرائيل الثقة والأمل في دولتهم في السنوات الأخيرة مع صعود اليمين المتطرف وانحسار الديمقراطية، إذ أصبح الكثير منهم يعتقدون أن دولتهم “اليهودية الديمقراطية” قد ذهبت في اتجاه معاكس لما كان ينبغي أن تكون عليه.
وفي عام 2023 كان ملاحظ بشدة تزايد عدد مواطني دولة الاحتلال الذين يصطفون أمام السفارات الأوروبية من أجل الحصول على جوازات سفر أجنبية، وكانت أرقام مكاتب السياحة الغربية تؤكد الاتجاه نفسه ، ومنذ تشكيل حكومة نتنياهو الأخيرة قبل “طوفان الأقصى” زادت نسبة الراغبين في الجنسيات البرتغالية والألمانية والبولندية، وأعلن مكتب الاتحاد الأوروبي زيادة عدد الإسرائيليين الراغبين في الحصول على جنسيات أوروبية، بل وصارت الكلمة الأكثر انتشارا في عمليات البحث على غوغل داخل دولة الاحتلال هي كلمة “الانتقال”.
وفي مطلع عام 2023 قبل 10 أشهر من “طوفان الأقصى” صرح شاي أوبازانيك المدير الأول في منظمة “أوشن ريلوكيشن” -التي تقدم خدمات المساعدة على الهجرة من دولة الاحتلال وإليها- لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” بأن الشركة تتلقى أكثر من 100 استفسار يوميا من إسرائيليين يتطلعون إلى الهجرة خارج البلاد منذ أن طرح اليمين الإسرائيلي مسألة “إصلاح” النظام القضائي، وهي القضية التي أثارت كثيرا من الاحتجاجات في شوارع إسرائيل باعتبارها انقلابا على الديمقراطية. وهذا العدد من طلبات الاستفسار عن سبل الهجرة لم يسبق له مثيل في تاريخ المنظمة منذ 80 عاما.